شعراء وقصائد خلف قضبان سجون الأندلس
سجن كثير من الشعراء الأندلسيين لأسباب متعددة من بينها الأسباب السياسية
قد تكون فكرة السجن من بين الأشياء العجيبة التي تفتق عنها ذهن الإنسان منذ وطئت قدماه الارض، وسبر آثرها مع مرور الوقت في مواجهة الخارجين على أنظمة الجماعات التي ينتمون إليها، او تقويمهم في بعض الأحيان أعادتهم الى دائرة النظام العام.
وقد اتخذت الدولة الإسلامية السجون كغيرها من الدول للحاجة الى إيقاع العقوبة على من يستحق، وفي الأندلس كانت السجون، وكان لكل مدينة من مدن الأندلس سجن عام ينسب إليها مثل: سجن شاطبة وسجن طرطوشة، وقد يكون في المدينة الواحدة اكثر من سجن.
وغالبا ما كانت السجون قريبة من قصور الحكام ان لم تكن فيها، حيث اشتهر من السجون سجن المطبق، وهو السجن الذي يقام تحت الارض في حرم قصر الخلافة نفسه، ليكون قريبا من الحاكم الذي يشرف عليه بنفسه احيانا او للحاجة الى التكتم والسرية في عمليات الحبس والقتل بعيدا عن اعين العامة، وكان لدى القضاة سجون ايضا بقصد الحبس على سبيل التوقيف الاحتياطي، لحين التثبت من براءة المتهمين او تجريمهم.
تولى الأشراف على السجون في الأندلس بادئ الآمر صاحب السوق (المحتسب)، الذي كان مسؤولا عن النظام في الطرقات والأسواق، ثم اصبحت السجون من اختصاص صاحب الشرطة في اواخر القرن الثالث الهجري، وصاحب الشرطة هذا عظيم القدر عند السلطان، وكانت العامة تهابه، ولا يتولى هذا المنصب الا الاكابر من رجال الدولة.
ويذكر ابن خلدون ان الشرطة في الاندلس قد نوعت زمن بني امية الى شرطة كبرى وصغرى، وجعل حكم الكبرى على الخاصة واهل الجاه، وجعل صاحب الشرطة الصغرى مخصوصا بالعامة من الناس، ثم اضيف اليها نوع ثالث وهو الشرطة الوسطى.
وقد فسرت هذه الانواع الثلاثة بالنظر الى الطبقات الاجتماعية في المجتمع الاندلسي، فهناك طبقة الخاصة وطبقة العامة، ثم تكونت طبقة بينهما من الاعيان التي يمثلها التجار وصغار الموظفين مما دفع الخليفة الاندلسي الناصر (ت 350 هـ) الى انشاء شرطة خاصة بكل طبقة منها.
ويدل هذا التقسيم على ان كل طبقة اجتماعية كانت تتمتع بمعاملة مختلفة في اجراءات سجنها ومكانه، فثمة سجون على حال سيئة من الظروف وسوء معاملة السجناء، بينما كانت هناك سجون توافر فيها ما يمكن ان نعده من الامتيازات.
وفي السجن كانت هيئة المسجون تختلف عما هي في حياته السابقة، لان السجانين كانوا عادة يغيرون الاشكال والثياب، كان المسجون يرسف احيانا في التقيد او الكبل (وهو القيد العظيم) خاصة في سجون المطبق، وهي المعدة للسجناء مدى الحياة، مبالغة في التعذيب والاهانة.
ولم تكن اوضاع السجناء كلها على هذا النحو من العذاب، فقد كان لبعضهم امتيازات حرم منها اخرون، مثل اتاحة ادوات الكتابة، اذ تذكر المصادر ان الرقاع كانت تصل من قبل المسجونين الى الحاكم تطلب الصفح والغفران، او تتضمن اشعار الاستعطاف من اجل العفو والحرية.
كان نصيب الشعراء من الامتيازات التي تمتع بها المسجونون كبيرا، فقد نال السجن كثيرون من شعراء الاندلس، لاسباب متعددة من بينها الاسباب السياسية بصفتهم من كبار رجال الدولة، حيث نالت بعضا منهم سهام المؤمرات والدسائس التي كانت تحاك ضد الخلفاء او الوزراء او غيرهم من ذوي النفوذ المقربين من القصر الحاكم.
وقد حظي بعض الشعراء مثلا بدخول الطلاب والمتعلمين عليه في سجنه، مثل الشاعر محمد بن فرج الجياني (ت 360 هـ) الذي سجنه الخليفة الحكم المستنصر، حيث كان اهل الطلب يدخلون عليه سجنه ويقرأون عليه اللغة وغيرها.
بينما كان السجن لبعضهم المدرسة التي يتعلم فيها ويصقل موهبته، مثل الشاعر الشريف الطليق (ت 396 هـ) الذي سجن وهو فتى يافع مع جماعة من الادباء فلم يزل يأخذ عنهم حتى «ثري تربه وطار شعره» فكان السجن له المدرسة التي علمته الادب وفتحت قريحته الشعرية.
في حين وضع بعض الشعراء في اثناء سجنهم مؤلفات عالجت محنتهم تلك، فهذا الشاعر يوسف بن هارون الرمادي (ت 403 هـ) الذي سجن على يد الحكم المستنصر لاشعار كان ينظمها هو وجماعة من الشعراء يتبارون فيا بهجاء الخليفة، وضع في سجنه كتابا سماه «الطير» في اجزاء وكله من شعره، ووصف فيه كل طائر معروف وذكر خواصه، ثم ذيل كل قطعة بمدح ولي العهد هشام بن الحكم ليشفع فيه لدى ابيه. ووضع الشاعر عبد الملك بن غصن الحجازي (ت 454 هـ) في سجنه رسالة في (صفة السجن والمسجون والحزن والمحزون) واودعها الف بيت من شعره في الاستعطاف، وكانت سببا في العفو عنه. والف ابن الابار (ت 658 هـ) في اثناء نفيه الى بجاية مؤلفه «اعتاب الكتاب» وفيه قصص للمحن التي لحقت بعدد من الادباء والكتاب، خاصة من نال العفو منهم بعد الشدة التي كان فيها ووضع في كتابه الى جانب قصصهم بعض نثرهم وشعرهم في تلك المحن، لتعينه في التعبير عن محنته هو، ثم ذيل كتابه باشعار الاستعطاف.
وكان من بين الشعراء الأندلسيين الذين سجنوا عدد لا بأس به من كبار شعراء الأندلس وادبائها، من امثال يحيى بن الحكم الغزال، وابن شهيد وابن زيمن دون والمعتمد بن عباد وابن حزم الأندلسي ولسان الدين بن الخطيب.. وقد تمتع بعض هؤلاء وغيرهم في سجونهم ببعض امتيازات ومنها مزية اتاحة ادوات الكتابة لهم، مما ساعد في حفظ كثير مما نظموا في سجنهم.
وقد حفظت لنا دواوين هؤلاء الشعراء وكتب التراث العديد من القصائد والمقطوعات الشعرية التي قالها الشعراء السجناء في تجربتهم، وكان جزء كبير منها في غاية الرقة، لان التجربة كانت قاسية ومرة، فانطلقت أشعارهم صادقة في التعبير.
ودارت اغلب اشعار السجن حول محور رئيس هو وصف المأساة التي نزلت بالسجين واثرها عليه، يقول ابو الاصبغ عيسى بن الحسن:
ليت شعري كيف البلاد وكيف ال
انس والوحش والسما والماء
طال عهدي عن كل ذلك وليلي
ونهاري في مقلتي سواء
ليس حظي من البسيطة
الا قدر قبر صبيحة او مساء
وتفرع هذا الموضوع الرئيسي الى عدة موضوعات فرعية صغرى شكلت في مجموعها اغراض شعر السجن في الاندلس مثل: الاستعطاف ووصف مكان السجن والسجناء ووصف القيد والحديث عن الامل والذكريات والحنين للاهل والاحباب وتقلب السجن بين الامل واليأس ثم الحكمة وخلاصة التجربة التي خرج با السجين ليفيد منها الآخرون او ليحذر الشامتين بمصيره من مصير مماثل قد يلاقونه.
وتعد عاطفة الحزن العميق جراء هذا المصاب المحرك وراء اشعار السجن لذلك اكتست الالفاظ والمعاني غلالة الدموع والبكاء، يقول ابن حزم:
مسهد القلب في خديه ادمعه
قد طالما شرقت بالوجد اضلعه
يأوي إلى زفرات لو يباشرها
قاسي الحديد فواقا ذاب أجمعه
يشكو الى القيد ما يلقاه من ألم
فبالانين لدى شكواه يرجعه
يا هاجعا والرزايا لا تؤرقه
قل كيف يهجع من في الكبل مهجعه
وتقلب الشعراء بين الامل والرجاء بانقضاء محنتهم، وبين اليأس والاستسلام للقدر الذي وقع، يقول المعتمد يائسا:
«ماذا رمتك به الايام يا كبدي
من نَبْلهنَّ ولا رام سوى القدر
اسرٌ وعسرٌ ولا يسر اؤمّلهُ
استغفر الله كم لله من نظر»
ورنا الشعراء السجناء الى الطيور الحرة في سمائها فاسكنوها اشعارهم، رمزا للحرية التي يتشوقون اليها، وسلت نفوسهم بصحبتها لحاجتهم الشديدة الى رفيق يشاطرهم وحشة السجن وغربته، وليخفف وطأة القيود التي يعانون ذلها وعذابها. يقول المعتمد يشكو قيده:
قيدي اما تعلمني مسلما
أبيت ان تشفق او ترحما
دمي شراب لك واللحم قد
أكلته لا تهشم الأعظما
وعاد بعضهم أدراجه الى جعبة ذكريات الماضي الجميل ينهل منها ما يعينه في بلواه، خاصة ذكريات الحب والعشق لدى الشعراء الذين كانت لهم معشوقات تملأن حياتهم، فكانت المرأة السكن والسلوى في ضيق السجن وغربته، يقول ابن زيمن دون متذكرا محبوبته:
ما جال بعدك لحظي في سنا القمر
الا ذكرتك ذكر العين بالاثر
ويقول ابو الحسن بن نزار:
لقد بلغ الشوق فوق الذي
حسبت، فهل للتلاقي سبيل
فلو انني مت من شوقكم
غرما لما كان قليل
تعللني بالتداني المنى
وينشدني الدهر: صبر جميل
وخرج بعض الشعراء من تجربتهم تلك ان الزمان يومان: يوم لك ويوم عليك، وان سهم القضاء لا راد له، يقول عبد الملك بن إدريس الجزيري:
من لم يذق طعم بؤساه وشدتها
لم يدر لذة نعماه ولا وجدا
لا بد للقدر المقدور من أمد
يلقاك على حتم وإن بعدا
ويستسلم هاشم بن عبد العزيز لقضاء الله في الشدة التي وقعت عليه ويقول:
سأرضى بحكم الله فيما ينوبني
وما من قضاء الله للمرء مهرب
وهكذا كان لتلك التجربة الإنسانية القاسية آثرها في أن ينظم بعض من الشعر الأندلسي في غرض وصف تجربة السجن، أثرها على الشعراء الذين ذاقوا مرارتها.