بسم الله الرحمن الرحيم
الحياء في الإسلام
ما هو الحياء؟
إن الحياء والغيرة فطرتان موجودتان في الإنسان فمن سلب الحياء ومن سلب الغيرة فقد سلب خصائص الفطرة، وصار شخصا ممسوخا، لأن من شأن الإنسان أن يتمسك بخصائصه الإنسانية.
والحياء هو من حيث الدلالة: انكسار يصيب النفس بسبب فعل مذموم أو الوقوع في قبيح، وأصله من " حيي" بمعنى: أصيبت حياته، وقالوا حيي بمعنى أصيبت حياته، ومسي بمعنى أصيب مساه، فإذن كأنما الخصائص الحيوية عندما يقع الإنسان في أمر ما يشعر بأنها تأخذ في الانزواء بسبب هذه الإصابة التي تؤدي به إلى الاستحياء من الغير.
فالحياء إذن من خصائص هذه الحياة وهو دليل على الحياة فالميت لا حياء له، ومن أجل أن الحياء دليل على الحياة والإيمان، كان الحياء شعبة الإيمان، فقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان وغيرها من طريق أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها كلمة لا إله إلا الله وأدناه إماطة الأذى من الطريق والحياء شعبة من الإيمان)[1] وقد جاء في رواية أخرى
الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها كلمة لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى من الطريق والحياء شعبة من الإيمان)[2] وهذا يدل على أن الإيمان كغيره من الشعب- الفعلية والتركية القولية والعلمية، هو ركيزة من ركائز هذا الدين الحنيف، وقد جاء في رواية أخرجها الترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل يعذل أخاه في الحياء أي يلومه على الحياء ويرى أن الحياء أضر به، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم
دعه فإنما الحياء من الإيمان)[3] وجاءت الروايات الكثيرة التي تفيد وتوضح ما يجب على الإنسان أن يستحي منه، فإن الحياء إنما يصدر بسبب الشعور بالتقصير أو بسبب الوقوع في أمر قبيح، أو بسبب تلبس الإنسان بما لا يحمد سواء كان ذلك باختيار أو بالاضطرار فالإنسان حتى ولو أصيب بما يصاب به من الأمور المذمومة اضطرارا لا اختيارا يتأثر نفسيا وينفعل انفعالا يعبر عنه بالحياء فلو أن أحدا من الناس اكتشفت سوءته من غير خيار منه فإنه ولا ريب يشعر بحياء شديد.
فإذن الحياء إنما يكون بالتلبس بما لا يحمد أو بالتقصير فيما يحمد سواء أكان ذلك باختيار أو بغير اختيار.
الحياء من الله تبارك وتعالى :-
لقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن الإنسان عليه أن يستحي حق الحياء من ربه تبارك وتعالى وقد بين الحديث كيف يستحي الإنسان حق الحياء من الله عز وجل فالنبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه وقد أخرجه كثير من أئمة الحديث منهم الشيخان ومنهم آخرون ، جاء في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
استحيوا من الله حق الحياء، فقيل له يا رسول الله لكنا نستحي من الله والحمد لله فقال: ليس بذلك وإنما هو أن يحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى، وأن يذكر الموت والبلاء ومن عرف الآخرة آثرها على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)[4] فإذن معنى ذلك أن الإنسان قبل كل شيء عليه أن يستحي من ربه لأنه إن استحيا من الناس ولم يستحي من الله وهو يعلم أن الله هو المطلع على سريرته ، العالم بما بين حنايا ضميره المطلع على ما في سويداء قلبه، وعلى ما يتلجلج في أعماق نفسه، إن لم يستحي من الله مع ذلك كله واستحيا من الناس، كان من الذين لا يعرفون الله لأنه لم يقدر الله حق قدره وهذا بجانب كون الله سبحانه وتعالى أحق أن يستحى منه، الأشياء كثيرة من بين هذه الأشياء إن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان والخلق هو النعمة الكبرى التي ترتب عليه النعم الأخرى، فما من نعمة من نعم الله الجمة الكثيرة إلا وهي مترتبة على الخلق لأن الإنسان لو لم يخلق لم يصبه شيء من هذه النعم، ثم بجانب ذلك جميع هذه النعم أتته من قبل الله فهو الذي صوره أحسن تصوير وهو الذي وهبه العقل، وهو الذي وهبه السمع والبصر وهو الذي وهبه القوى والملكات الظاهرة والباطنة وهو الذي سخر له الأرض وما فيها وما عليها ، سخر له الكون بأسره فمن أحق بأن يستحيي من الله سبحانه وتعالى، مع هذه النعم التي وهبها للإنسان مع أن طبيعة الإنسان تستدعي أن يستحي ممن أحسن إليه، فلو أن أحدا غمر أحدا بإحسانه، ثم وجد منه ما يسوؤه لكان ذلك بحسب فطرة الإنسان جديرا بأن يبعث الحياء في نفس هذا الذي اطلع المنعم عليه بما لا يحمد منه فإذن كيف مع هذا يجتزئ الإنسان على خالقه تبارك وتعالى ويفعل هذه الأفعال المخالفة لأمره، ويتعدى حدوده، ويقدم طاعته على طاعة غيره ويشفق على نفسه من غيره أكثر مما يشفق منه، ويتمنى أن لا يطلع أحدا غير الله تبارك وتعالى على سوءته ومساوئه، ولا يبالي أن يكون الله تبارك وتعالى مطلعا عليها، فإذن هذا أمر يدل على أن من صدر منه مثل ذلك ليس من الإيمان في شيء لأنه لم يقدر الله حق قدره، كما بين الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحياء أن يحفظ الإنسان رأسه وما وعاه وذلك بأن يقدس أفكاره وينزه خواطره أو كل ما لا يرضى الله سبحانه وتعالى لأنه يكون معتقدا العقيدة الصحيحة العقيدة التي تصله بربه، العقيدة التي تجعله واقفا عند حدود الله وأن لا يخطر بباله بجانب ذلك أيضا شيء مما نهاه سبحانه وتعالى عنه، كما قيل في التقوى أن تزين سريرتك للحق كما تزين علانيتك للخلق، فكذلك الحياء يقتضي أن يقدس الإنسان سريرته.
والرأس هو مجمع الحواس وفيه الدماغ الذي هو مركز التفكير ومركز الإحساس فإذن حفظ الرأس معنى ذلك حفظ جميع التصرفات وجميع الأعمال، حتى تكون هذه الأعمال كلها وفق أمر الله تبارك وتعالى، غير خارجة عن ما يقتضيه حكم الله كذلك حفظ البطن وما حوى، على هذا الذي يستحي من الله يحفظ بطنه، بحيث لا يدفع إليه بأي شيء كان، وإنما يحرص كل الحرص على أن يكون ما يسيغه حلقه إلى بطنه حلالا طيبا، ليس فيه حرمة فمن لم يبالي بما يلج في جوفه لم يبال الله تبارك وتعالى أن يقذف به في النار، لأن الذي يولجه في جوفه هو الذي يؤدي إلى نماء جسده وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم( كل لحم نبت من سحت النار أولى به)[5] وبجانب ذلك كله أيضا يذكر الموت والبلاء، لأن الله تبارك وتعالى توعده بالموت، فالإنسان في هذه الحياة بمثابة السجين، فالحياة نفسها سجن كبير والناس كلهم سجناء، هؤلاء السجناء كل منهم محكوم عليه بالإعدام ولكنه لا يدري ساعة هذا الحكم فيه فلا يدري أحدنا متى ينفذ فيه هذا الحكم لأن الله تبارك وتعالى حكم على الكل به، فقال عز من قائل:] كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور[[6] فالله تبارك وتعالى أخبرنا هنا وهو أصدق القائلين بأن كل نفس ذائقة الموت ويقول تعالى:] كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام[[7] إذن هذا حكم من الله تبارك وتعالى ولا تبديل لكلمات الله ولا معقب لحكمه ولا راد لقضائه إذن بما أننا نعلم أن الموت ينقلنا من هذه الدار إلى الدار الأخرى، تلك الدار يحاسب فيها الإنسان على ما قدم وأخر، وعلى ما فعل وما ترك، وعلى ما أضمر وما أظهر، جدير به أن يقدس سريرته وعلانيته لتكون وفق أمر الله تبارك وتعالى حتى لا يخرج شيء من أعماله عن مقتضى حكم الله تبارك وتعالى بهذا يكون الإنسان حييا حق الحياء وواقفا عند حدود الله.
] وللآخرة خير لك من الأولى[
كذلك يجب على الإنسان أن يذكر الآخرة على الأولى، ومن عرف الآخرة آثرها على الأولى، فالدنيا هي الحياة الأولى، والدار الآخرة داران، دار نعيم ودار جحيم، نعيم الآخرة لا يمكن أن يشبهه نعيم من نعيم الدنيا، وعذاب الآخرة أيضا لا يمكن أن يشبهه عذاب في هذه الحياة الدنيا، فقد جاء في بعض الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم( أنه يؤتى بأكثر الناس نعيما في هذه الحياة الدنيا فيغمس يوم القيامة غمسة في عذاب الله ويقال له هل ذذقت نعيما قط فيقول لا ويؤتى بأكثر الناس بلاء ونصبا في هذه الحياة الدنيا ويغمس غمسة في نعيم الآخرة ثم يقال له هل ذقت عذابا في الدنيا فيقول لا)[8] هكذا نعيم الآخرة ينسي محن هذه الحياة الدنيا وعذاب الآخرة أيضا ينسي نعيم هذه الدنيا فمن عرف الآخرة وقدرها آثرها على الحياة الدنيا، وكانت الآخرة نصب عينيه، والله تبارك وتعالى يدعونا إلى الدار الآخرة، فهو عز وجل يقول:] والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم[[9] ثم يبين المصير في الآخرة بحسب ما يكون عليه المسير في هذه الحياة الدنيا إذ يقول إثر ذلك:] للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون(26) والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون(27) [ ويدعونا الله عز وجل في آيات كثيرة إلى تلك الدار الآخرة فهو تعالى يقول:] وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين(133)الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين(134)والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون(135) [ ويقول تعالى: ] سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم[ ، هذه دعوة من العزيز الحكيم إلى المسابقة إلى الدار الآخرة ويبين لنا سبحانه وتعالى أيضا مما في تلك الدار من نعيم فيقول:] فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون[ ، نجد هنا أن النفس لا تدري أبدا ما أخفاه الله تعالى لعباده المؤمنين في الدار الآخرة من قرة أعين.
وإذا كانت تلك الدار بهذا الوصف والله سبحانه وتعالى أصدق القائلين يصفها بهذا الوصف فإنه تبارك وتعالى أيضا يصف الحياة الدنيا وصفا آخر بحسب ما تستحقه فهو يقول:] كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور[ ويقول تعالى:] إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون[ وتأتي الآيات الكثيرة في كتاب الله لتدلنا على حقيقة هذه الحياة الدنيا وطبيعتها ونحن نشاهد هذه الحياة الدنيا على ما هي عليه، من خلال ما نقرأه من أحداث ومن خلال ما نواجه فيها من محن، ومن خلال ما تأتي به من غرائب، فهي لا تكاد تهب حتى تسلب، ولا تكاد تمنح حتى تمحن ولا تكاد ترفع حتى تضع، ولا تكاد تغني حتى تفقر هكذا هو شأن هذه الحياة الدنيا.
فإذن جدير بهذا الإنسان وهو يعرف أن هذه هي صفة الحياة وبهذا وصف الله سبحانه وتعالى هذه الحياة، أن يحرص على تلك الدار الآخرة التي أعدها الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
الحياء خير كله)[10] وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم
لا يأتي الحياء إلا بخير)[11] وجاء أيضا في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم
الحياء والعيب من الإيمان والبذاء والبيان من النفاق)[12] وأنا لا أعرف مدى صحة هذا الحديث، وإنما أخرجه الإمام الترمذي ولكن مع هذا كله فإن المراد بكون البيان من النفاق بجانب البذاء، أن البيان الذي استخدمه الإنسان في قلب الحقائق فقد يصور الحق في صورة الباطل ويصور الباطل في صورة الحق ويصور المحمود في صورة المذموم ويصور المذموم في صورة المحمود، ويصور الظالم في صورة المظلوم ويصور المظلوم في صورة الظالم، ويصور المحسن في صورة المسيء ويصور المسيء في صورة المحسن، وقد اقترن بالبذاء الذي هو ضد الحياء لأن البذيء الذي هو غير حيي يستطيع أن يتصرف في بيانه هذا التصرف، أما المؤمن الحق فهو مهما أوتي من ملكات بيانية يحرص على أن يقدم البيان خدمة للحق وإيثار لأهل الحق ودفاعا عن الحق نفسه، ودفاعا للشبهات التي تحوم حوله، فإذن هنالك فارق كبير ما بين بيان المؤمن وما بين بيان المنافق ولذلك قرن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في هذه الرواية البيان هنا بالبذاء لأن البيان المذموم هو الذي يستخدم في قلب الحقائق وفي خدمة الباطل في إظهاره في صورة الحق، وقد جاء أيضا في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
بأن الحياء في الجنة والجفاء في النار)[13] والعياذ بالله فهذه الأحاديث كلها تدل على قيمة الحياء ومنزلة الحياء.
لإسلام يوجه الفطرة:-
ولكن الإسلام دين الله تبارك وتعالى الحق يوجه جميع ما في الإنسان من طاقات وجميع ما في الإنسان من ملكات الوجه، التي تعود بالخير ولا تعود بالذم، فهو عندما يوجه الفطرة الوجهه السليمة، يجعل هذه الفطرة تخدم الإنسان، تخدم دنياه وتخدم آخرته.
والفطرة قد تنحرف عندما لا توجه الوجهه السليمة فالله سبحانه وتعالى وهب الكفار عقولا تقوم بها الحجة عليهم، وهم كما نرى وكما نشاهد قد تفننوا في الصناعات وأنتجوا إنتاجا يقدر عند الناس بسبب آثاره التي أصبحت تغري الناس كثيرا، إلا أنهم مع هذا كله فقدوا الهداية لأن الفطرة انحرفت بهم عن المسلك السوي، فالعقل الذي وهبوه انحرف بهم عن المسلك السوي، فأصبح هذا العقل هداما ولم يعد بناءا وكذلك كل ما في الإنسان من خصائص فطرية عندما تترك وشأنها قد يكون الأمر يقضي إلى أن تعود بالسوء على الإنسان إن لم توجه الوجهه الصحيحة فلذلك جاء الإسلام ليوجه الوجهات الصحيحة.
الحياء المطلوب:-
فالحياء المطلوب في الإنسان هو الحياء الممدوح المحمود، الذي يكف الإنسان عن المناهي ويحجزه عن المعاصي، ويحول بينه وبين المنكرات، لا الحياء الذي يمنعه من الحق فإن الله تعالى يصف نفسه بأنه لا يستحي من الحق] إن الله لا يسحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها[(سورة البقرة الآية 26) .
ولا ريب أن الحياء وجميع الانفعالات التي تطرأ على النفوس البشرية لا يوصف الله تبارك وتعالى بحقيقتها، لأن صفات الله ليست كصفاتنا وإنما المراد المجاز، أي لا يمتنع الله تبارك وتعالى عن قول الحق أو عن إظهار الحق أو عن ضرب المثل الذي يثبت الحق لأي داعي من الدواعي، فمن شأن الحياء أن يحجز صاحبه ويمنعه من الشيء الذي يستحيي من فعله، ولذلك وصف الله تعالى نفسه بالحياء، وقد جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم( إن الله حيي، كريم، يستحي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا)[14] وهذا يدل على فضل الحياء وعلى مكانة الحياء، وعلى قيمة الحياء، ولكن مع ذلك لا يعني هذا أن يمتنع الإنسان عن فعل شيء مما يحمج لأجل دافع من الحياء، وبذلك أثنت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على نساء الأنصار رضي الله عنهم فقالت
لله در نساء الأنصار، ما منعن الحياء من التفقه في دين الله تعالى) [15]فمن طبيعة المرأة الحياء، والمراة تستحي أكثر مما يستحي الرجل، ولذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أشد حياء من العذارء في خدرها، كما جاء ذلك في حديث أبي سعيد رضي الله عنه ذلك أن المرأة وخصوصا العذراء تكون أشد حياء فهي تستحي مما لا يستحيي منه الرجل بأن تسأل عنها، إلا أن حرصها على دينها ورغبتها فيما عند الله وإثارها لطاعة الله، كل من ذلك جعلها لا تبالي أن تسأل هذا السؤال الحرج، وتسأل من؟! تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاءت أم سليم الأنصارية رضي الله عنه وهي أم أنس بن مالك وزوج أبو طلحة الأنصاري جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم( فقال: يا رسول الله أن الله لا يستحي من الحق، إن المرأة لترى ما يرى الرجل، فهل عليها من غسل؟ قال لها النبي صلى الله عليه وسلم نعم إن رأت الماء)[16] تعني بذلك أن المرأة قد تحتلم كما يحتلم الرجل فهل تجب عليها الغسل عندما تحتلم؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم نعم إذا رأت الماء عليها أن تغتسل، ومن الحياء الذي قد يمنع المرأة مثلا عن الاغتسال الواجب أن المرأة قد تكون في سفر مع الرجال، وهي تتمكن لولا الحياء من الاغتسال من الحيض بعد طهرها منه، ولكن الحياء يصرفها عن ذلك هذا الحياء غير محمود لأنه حياء يمنعها من طاعة الله يمنعها من أداء فرض من فروض الله.
كذلك الحياء الذي يجعل المرأة أو يجعل الرجل لا يسأل عن أمر دينه، وعن الخصائص السرية لابد للإنسان أن يتفقه فيها وأن يعرف أحكامها، وأن يمتثل فيما أمر الله تبارك وتعالى ولكن عندما يستحي هذا الحياء فهذا الحياء غير محمود.
ومما ذكر عن بعض علماء السلف المتقدمين أن رجلا من علماء السلف كان بجزيرة جربة[17] بتونس وهو العلامة أبو مسور، كانت عنده ابنة، وكانت ابنته فتاة في سن بلوغها، ولكنها كانت تسأل أباها أسئلة حرجة جدا، حتى أنها عندما حاضت أول حيضها، أخذت تسأله عن أحكام الحيض حتى وصفت له كيف يأتيها الحيض فقال لها: آما تستحين يا ابنتي تسألينني عن مثل هذا السؤال؟ قالت: أخشى الله يا أبت إن استحييت منك أن يمقتني يوم القيامة، فقال لها: لا مقتك الله، وهكذا كانت هذه الفتاة محل إعجاب من أبيها من حيث جرأتها ومن حيث كثرة أسئلتها.
ومما ذكر من قصصها أنها في يوم من الأيام كانت تغسل ثياب أبيها فقال لها والدها: تمنيت لو أن الله طهر قلبي مثل هذا الثوب، فقالت هي: تمنيت لو أن الله تعالى جعل طهارة قلبي بيدي فأطهر مثل هذا الثوب فقال لها: أنت أفقه مني حتى في الأماني، أي فقت علي حتى في الأماني، لأن امنيتك أغلي من أمنيتي فأنا تمنيت أن يطهر الله قلبي بنفسه، وأنني تمنيت أن يجعل تطهيره بيدك فيكون لك الفضل في هذا التطهير حتى تطهرينه مثل ما تطهرين هذا الثوب.
فهكذا الحياء المحمود الحياء الذي يحجز عن المنهي ويحول عن المذموم أما الحياء الذي يمنع الإنسان أن يقول قولة الحق، وأن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر، وأن يقول للظالم أنت ظالم وأن يناصر المظلوم وأن يقف عند حدود طاعة الله تبارك وتعالى وعند حدود أوامره، فذلك حياء مذموم وليس هو الحياء الممدوح والحديث وإن قال( الحيا خير كله) فإنما يأتي ذلك عندما يكون الحياء فطريا لا عندما يكون هذا الحياء منحرفا عن الفطرة السليمة فهذا هو الحياء.